قصة قصيرة: مذكرات نعامة غربية!!سلـوى الحمامصى

في رحلة من الخليج إلى ألمانيا على متن طائرة خطوط طيران عربية ، كنت مشغولة للغاية في تجهيز وجبات طعام ركاب الدرجة الأولى ، بعد أن فرغت منذ قليل من تقديم تحية الاستقبال لهم والتحية الخاصة من كابتن الطائرة لركاب الدرجة الأولى .
التقيت به لأول مرة عندما كنت أقدم صينية الطعام له فى مقعد الدرجة الأولى الوثير ..

سألني وقتها إن كان لدى بعض الكحوليات على الطائرة ، فاعتذرت له بأن الخطوط التي تتبعها الطائرةهى خطوط عربية لا تقدم هذه المشروبات ، غير أننى أتحفته ببعض الكركديه اللذيذ الذي نحتفظ به عادة لطاقم الطائرة .
بعد أن أنهيت مهمتي جاءت جلستي على مقربة منه حيث كانت مقاعد الدرجة الأولى شبه خاوية ، سألني إن كان عندي مانع لتجاذب أطراف الحديث سويا ، فرحبت خاصة و أن مدة الرحلة طويلة .

كنت قد أقسمت منذ تخلصت من زيجتى الأولى ، ألا أتزوج برجل شرقي وأكرر الخطأ مرة أخرى ، فصرت دائماً أتطلع في أوجه الركاب الأجانب ربما وجدت ضالتي ، كنت أضحك من نفسي ولكنى قلت : ما الضرر إن كنت لن أخسر شيئا .
كنت سعيدة الحظ عندما لم أنجب من زوجي الأول طفلاً يذكرنني دائما ببغضي لأبوه وكرهي لرجعيته وعقده .

لم أدر كم من الوقت مرّ ونحن نثرثر ، لن أنكر إعجابي بعينيه الزرقاوتين وملامحه الألمانية الصميمة ، كان من أب ألماني وأم فرنسية ، لذا كان يجيد اللغتين الألمانية والفرنسية ، إلى جانب الإنجليزية ، ضحكت في داخلي وقلت : إذا تشجار معي بالألمانية أو الفرنسية فلن أفهم شيئا ، جميل جداً ، إذن هذا هو الزوج المناسب .

بعد الوصول إلى برلين العاصمة الألمانية، ذهب كل في طريقه ، لم أنس أن آخذ منه كارته الشخصي ورقم جواله فى أجازته القصيرة فى برلين ، ورقم الرحلة التى سيعود عليها إلى الدولة الخليجية .

-2-

صحبتنى زميلاتى المضيفات إلى فندق مطار "بريلن" حيث نقضى 4 أيام راحة حتى نعاود الطيران من جديد على نفس الرحلة الجوية .
لم أعدم وسيلة للانسحاب منهم والاتصال به وسؤاله عن أجمل الأماكن للتنزه فى ألمانيا ، حيث أنها المرة الأولى لى هناك ، أجابنى سعيداً وكأنه ينتظر مهاتفتى ، بأنه على استعداد لصحبتي بنفسه لمدة يوم واحد لمشاهدة بعض هذه الأماكن .

لسعادتى تمكنت من جذبه لمدة بقائه معى لأربعة أيام ، زرنا خلالها " تيير جارتان" حديقة الحيوان الشهيرة فى ألمانيا ودعانى للغذاء هناك على ضفاف البحيرة ، وصحبنى لمشاهدة" بوابةبراندنبرج" وشرح لى كيف أن" بسمارك" بناها رمزا للوحدة الالمانية وكيف أنها كانت جزءا من السور الفاصل بين برلين الشرقية والغربية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى تهدم السور فى 1989، أعجبتنى ثقافته وذوقه وكل شىء فيه ، ازدادت ثقتى بنفسى عندما لاحظت أنه بقى معى أكثر مابقى مع أهله الذى جاء لزيارتهم .

تمارضت ونجحت فى إبداء علامات الوهن والضعف، لتفويت الرحلة المفروض أن أعود لممارسة مهامى كمضيفة عليها ، كى أنتظر الرحلة التالية، والتى سيكون هو عليها .
ودون أن أخبره تظاهرت بالدهشة والسعادة لرؤيته مرة أخرى على متن الطائرة فى الرحلة العائدة إلى الدولة الخليجية، حيث إقامتي الدائمة والبنك الذى يديره .
قضينا ساعات طويلة فى الرحلة نتحدث، كان هو يفتقد روح المرأة التى تهتم به وتضع نفسها بين يديه ، فى حين كنت أنا أبحث عن رجل يكون عكسا لطليقى الشرقى المعقد .

توالت بيننا اللقاءات فى الدولة العربية التى كنا نقيم بها، كان لدى الكثير من الحجج لأذهب إلى البنك الذى يديره ، واختلاق المشكلات مع العاملين حتى يضطرون لإرسالى للمدير دائما لأتفاهم معه .
وتفاهمنا ، لم يعد يطيق بعدى عنه .
قرر اعتناق دينى حتى يمكنه الزواج منى عندما تأكد أنه لا سبيل إلى إلا السبيل الشرعى . كنت سعيدة جدا معه، كان عكس طليقى بنحو تسعين درجة، خروجى ودخولى كما أشاء، حروف حريتي أشكلها كما يعن لى ، مجوهراتى تزداد يوما بعد يوم تتلألأ فى أدراج غرفة نومى بالفيلا الكبيرة .

-3-

بعد عامين من زواجى منه، انتقلنا إلى "الصين" حيث عمله الجديد كمدير لبنك آخر .
أفتقد إلى لسان عربى يخاطبنى ، يناقشنى، لا أجد إلا الأفلام العربية فى غير وقت وجوده فى الفيلا ، فهو لا يفهمها ، يعتبرها مملة سخيفة .
ملابسى تخلصت منها كلها ، وأشتريت ملابسا أوروبية تليق بزوجة ألمانى ، كى تنال إعجابه ،إختارها بنفسه معى .
أشتاق لأكلات عربية ، وهى نادرة فى الصين ، عندما وجدت إحداها وهممت بتناوله لم يطق رائحته الذكية ، قال أنها رائحة نفاذة تثير أمعائه. تخلصت منها على الفور ، ألقيت بها فى القمامة وأمعائى تتحسر عليها . عند الاختيار ، لابد أن أختار أمعائه هو، حتى أعبر له عن مدى حبى وولائى ، أعلل لنفسى كى لا أجن .

يكثر غيابه عن البيت بحجة الاجتماعات ، وأنا لاأبالى ، تكثر أسفاره من المحيط الهادى للمحيط الهندي وأنا ماكثة فى "بكين" وطفلتى الرضيعة أنتظر قدومه .
أخبروني بصديقته الإيطالية الحسناء ، وسكرتيرته الأمريكية التى تسهر معه فى المكتب لأوقات متأخرة فى الليل ،أغلق آذاني لهم ، أدفن رأسى فى الرمال . ذات يوم ابتاع قطة من سلالة صينية مقدسة ، مكثت فى غرفتى أياما مرتعبة ، حتى عودنى فن التعامل مع قطة قديسة مثلها .

أتهيأ له فى المرآة ، أنثر شعري الأسود كغجرية سمراء كما يحب أن يرانى ، ألاحظ نحافتى البادية ، فقدت 20 كيلوجراما منذ هذه الزيجة ، بالطبع ،فأنا أمارس الرياضة يوميا لمدة ساعة ، ثم أحظى بحمام بخار"سونا" معتبر ، أقفز بعده إلى حمام السباحة الخاص بالفيلا ، بناءا على طلبه .

أقام اصدقاؤه حفلة لتوديعى قبيل سفرى لوطنى لزيارة الأهل ، قبّلنى كل منهم رجال ونساء واحد واحد ، لم أعد أنزعج ، "إنها قبلة أخوية ، تحية غربية " كما قال لها فى بداية عهدها معه .

-4-

بعد أكثر من عامين أتهيأ للتوجه للمطار للسفر إلى بلدى ، وفى الدقيقة الأخيرة ، مهاتفة منه:
- "حبيبتى ، إذهبى وسآتى بعدك بأسبوع، لدى أعمال كثيرة ".
أطرد من ذهنى صورة صديقته الإيطالية الحسناء وسكرتيرته الأمريكية .

فى الطائرة أشعر بنظرات الحسد من إحدى زميلاتى السابقات" المضيفات" على زواجى من الثرى الألمانى، تغمز لى بعينها وهى تناول أحد الركاب الأمريكين وجبة الطعام .
فى المطار ، يصطف أفراد عائلتى للترحيب بى وبزوجى الذى لم يرونه منذ الفرح ، " لم يأت لظروف" هكذا قلت لهم .
أتلقى دعوة عمى على العشاء لى ولزوجى فأذهب وحدى ، أتعلل عن عدم مجيئه لظروف.
أسافر إلى قرية سياحية ببلدى وعدنى زوجى بقضاء أوقاتا ممتعة على شاطئها وحدنا فى الغد موعد وصوله ، يبعث لى برسالة على هاتفى الجوال مع صورته الباسمة مكونة من سطرين،" آسف جدا، سأعوضك الشهر القادم برحلة ممتعة إلى ألمانيا "؟
أقضم أظافري غيظا وأنا أجيب طفلتي "فاتيما" ذات العامين، وهى تسألنى بالألمانية:أين أبى.
أجيبها بأنه لم يأت لظروف!!

-5-

تنتهى أجازتى وأعود إلى الصين وحدى أنا وطفلة العامين ، حيث أقيم مع زوجى ، تتردد فى أذناى كلمة أمى : لا تدفني رأسك بالرمال !
لا أحد ينتظرنى بمطار" بكين" ، أستقل سيارة أجرة وأعود إلى فيلتى ، الأنوار مطفأة وكأن أحدا ليس بالداخل . أناول السائق نقوده بعد أن وضع حقيبتى أمام الباب .
أخرج مفتاحى ،أديره فى فتحة الباب وأخطو للداخل متوجسة من الظلام ، أجد قصاصة ورقية صغيرة على المنضدة المواجهة لمدخل الباب : "سافرت إلى ألمانيا، سأعود بعد شهر أو شهرين".
يفتح الباب من ورائى، تدخل خادمتي الإندونيسية تحمل أكياس السوبر ماركت ، أفرح للقائها أدعوها للداخل وأجلس أتجاذب معها أطراف الحديث .